بيانات حركة أحرار البحرين

الحجّ: رحلة التحوّل الفكري والسياسي البشري

نبارك للمسلمين خصوصا حجاج بيت الله الحرام حلول عيد الأضحى المبارك، داعين الله أن يوفق الجميع لاستيعاب أهداف الحج ومقاصد العبادة وأسس الدين الإبراهيمي الحنيف.

حقًّا إنها أيام معلومات ومعدودات، تلك التي تُمارس فيها فريضة الحج، العبادة التي تؤكد قيم التوحيد ووحدة الأمة والأذان بالبراءة من المشركين. والبراءة هنا لا تعني الحرب والشقاق، بل التميّز في العقيدة والممارسة والالتزام بقيم الولاء والبراء. فالحج ممارسة روحية عميقة في أيام معلومات وفي مكان معروف، يربط الحاضر بالماضي ويشد الجنس البشري لبعضه ويرفع راية التوحيد التي تتضمن رفض الأصنام والظواهر المرتبطة بها. فما أكثر دروس الحج وأسمى أهدافه وعمق دوره في توجيه الحياة الإنسانية. إنها عبادة تستعيد تاريخ النبوّات لتشد الجميع ألى مصدر الأديان، وتوثق دور النبي إبراهيم الخليل عليه السلام كأصل للظاهرة الدينية بمعانيها الحالية وتجلّياتها في الممارسة العامة للبشر.

من المؤكد أن أغلب الحجاج لا يلتفت للمعاني العميقة لهذه الفريضة ومقاصد المناسك المرتبطة بها، ولذلك قيل: ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج، كما تعددت القصص التاريخية المرتبطة بالحديث عن الحج ومقاصده، كما جاء في الحوار المنسوب للإمام علي بن الحسين عليه السلام، وأبي مسلم الشبلي حول مضامين المناسك ودلالاتها الحياتية. فمن نعم الله على الإنسان أن جعل شؤونه مترابطة، فعبادته لا تنفصل عن ممارساته الحياتية، سواء الصلاة أم الصوم أم الحج. فكلها ممارسات روحية تنعكس بشكل واضح على حياته اليومية إن هو أمعن النظر وسعى لتحقيق ذلك. هذا مع الاعتراف مجددا بأن غالبية العابدين لا يتمعّنون في أبعاد ممارساتها ومدلولاتها. والإيمان الراسخ يقتضي عكس ذلك، فما من شيء في الكون إلا يسبح بحمد الله. والتسبيح هنا تعبير عن الاعتراف بوجود الخالق جل وعلا في الحياة العامة، وأن العبادة ليست طقوسا تُؤدّى بلقلقة اللسان مع غياب التفكير والتدبر. والحج الأكبر الذي تكرر ذكره في القرآن الكريم أحد أهم العبادات في الإسلام، نظرا لمدلولاتها وارتباطها بأساس النبوّات.

ليس من قبيل المصادفة أن ترتبط بإبراهيم عليه السلام، الذي كانت حياته وممارساته أنموذجا للإيمان الحقيقي نظريات حول الحياة الإيمانية المطلوبة. فإيمانه عميق لأنه استحصله من خلال التجربة والسؤال والتمعن في الفلك وحركة الشمس والقمر، ولأنه استخدم العقل في حواره مع النمرود لتأكيد حجته ودحض المنطق الفرعوني الهادف لإضعاف الانتماء الديني ودور الإله في حركة الكون والواقع. ودوره في بناء الكعبة معروف ومنصوص عليه في القرآن الكريم: “وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم”. أما استسلامه المطلق لله فحقيقة يؤكدها استعداده للحرق على أيدي الطغاة، ونجاته من النار بإرادة إلهية مذهلة. أما تضحيته فلا تعادلها تضحية أخرى، أكدها استعداده لتنفيذ الأمر بالإلهي بذبح ابنه: “إني أرى في المنام أني أذبحك، قال يا أبت افعل ما تؤمر، ستجدني إنشاء الله من الصابرين”. وقد أصبح أداؤه نمطا للحج الذي أقره الإسلام، واصبح واحدة من أهم شعائره، وتوسع الاهتمام به حتى أصبح عاملا مهما في العلاقات السياسية بين الدول الإسلامية. وبسبب الاختلاف على نمط أدائه حدثت مماحكات سياسية وصلت في بعض الحالات إلى قطع العلاقات الدبلوماسية. ويمكن ملاحظة أهميته من خلال تقييم الفعاليات التي تقام على هامشه خصوصا في مكة المكرّمة، والوفود التي تشد الرحال إلى تلك الديار، والتواصل السياسي والدبلوماسي في ما بينها.

إن في الحج دروسا واسعة للمسلمين بشكل خاص. فهو تفعيل عملي لمفهوم التوحيد الذي هو أساس العقيدة والتطبيق العملي لفكرة الإله الواحد الذي يدير الكون وحده “ولا يشرك في حكمه أحدا”. وما المناسك التي يمارسها الحجاج إلا تأكيد للتوحيد، سواء بالطواف حول البيت أم السعي بين الصفا والمروة أم الوقوف على جبل عرفة، وما يتخلل ذلك التجمع من تلبية وتكبير “لبيك الله اللهم لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك”. إن تجمّع حشود الحجيج في أيام محدّدة في بقعة محدّدة من الصحراء إيحاء بالحضور الإلهي والتفاعل البشري مع المشروع الإيماني الموغل في القدم. إنه استحضار لانطلاق الدعوة الإبراهيمية التي مرّت بكافة مراحل الصراع من أجل التوحيد. كانت بداية ذلك موقف إبراهيم من عقيدة التوحيد والاتصال بالرب من خلال الكون: “وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض”. هذه الرؤية الإبراهيمية للكون وعظمته بدأت بنبذ الأصنام واستنكار من يتخذها آلهة، وفي ذلك وعي عميق ينسجم مع العقل البشري القادر على سبر أسرار الكون ورفضه الضلال، والبحث الدائم عن النور والهداية. وبذلك الرفض بدأ إبراهيم مرحلة البحث عن البديل العقلي، دفعته للتساؤل عن الخالق، وما إذا كان كيانا مادّيّا يتجاوز الحدود البشرية. قال تعالى: “فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ 78”. إنها رحلة تمثل بداية الإيمان الإبراهيمي الذي كان القاعدة التي قامت عليها الأديان السماويّة. وبعدها جاءت العبادة بأشكالها وصولا إلى تشريع الدعاء: رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذرّيّتي، ربّنا وتقبل دعاء.

هذه الرحلة ذات المغزى الذي جاءت الأديان السماوية على أساسه دفعت سيدنا إبراهيم لبناء البيت ومعه اسماعيل، بعد أن أسكن زوجته في منطقة نائية ليس فيها أثر للحياة: “ربّنا إنّي أسكنت من ذريّتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم”. وكان الهدف توفير أجواء العبادة كأساس لنشوء النسخة الأخيرة من التديّن الإنساني المدعوم بالوحي من الله من خلال الأنبياء والرسل. وبقي التراث الإبراهيمي ممارسة عبر الأجيال على أكثر من 2500 سنة حتى جاء الإسلام على يدي رسول لله محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام. وقد أقرّ هذا الدين الكثير مما اشتملت عليه الرسالة الإبراهيمية، ومن بينها الحجّ الذي يمارسه الملايين من البشر. وهكذا تتجلى وحدة الأديان بوضوح، وتمتد بجذورها إلى النبي إبراهيم الذي يحجّ الملايين هذه الأيام إلى البيت الذي بناه بمساعدة ابنه إسماعيل.

ذلك التراث الإبراهيمي الذي جسّد مفهوم التوحيد بعد رحلة طويلة من البحث والمعاناة والمساجلات الفكرية والمنطقية والتضحيات الجسيمة أصبح أساسا لما يمارسه المسلمون اليوم خصوصا خلال موسم الحج. إنها قصة مترامية الأطراف، موغلة في التاريخ، تتضمن شيئا من التفصيل لدور الرجل والمرأة في المشروع الإلهي الذي يتطلب الحركة الدائبة ابتداء بالطواف حول البيت ثم السعي بين الصفا والمروة، ثم تقديم الأضحية، كل ذلك في أجواء من الرضا اعتبرت “عيدا” للموحّدين، يحتفي به المؤمنون كل عام. هكذا كان إبراهيم الخليل وإسماعيل اللذان تركا تراثا ضخما من المنطق العقلي والدليل المستمد من أعماق الكون، والتضحية التي بلغت حدا غير مسبوق. بعد هذا ألم تتضح رسالة الحجّ بوضوح؟ هل تحوّل النبي إبراهيم ألى مثال بشري أعلى في التوحيد المؤسس على المنطق، ثم البناء والتصدي للطغيان والتضحية بالغالي والنفيس؟ هل أصبح الحج رسالة عملية يتحمّل الحجاج مسؤولية حمل مضامينها الفعلية للبشر الآخرين؟ إن لم يحدث ذلك فما تزال الفجوة بين الحج الإبراهيمي وسواه واسعة، وما تزال البشرية بعيدة عن الروح التي يُفترض أن تتمخّض عن الرحلة الشاقة لبيت الله الحرام، وعليها الهرولة لاستعادة تلك المضامين لكي لا يصبح الحجّ حدثا هامشيا بدون تبعات أو مسؤوليات أو توقّعات بالتغيير والعطاء. إنّها رحلة تحرير الإنسان من الاستعباد والتبعية واللامسؤولية لكي يكون حرّا، وليستوعب أن هذه الحرّيّة تتطلّب التضحية بأعز ما يملك.

اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفكّ قيد أسرانا يا رب العالمين

حركة أحرار البحرين الإسلامية
6 يونيو 2025

زر الذهاب إلى الأعلى