زيارة ترامب المنطقة، وذكرى النكبة ومسؤوليتنا
برغم ما صاحب زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للمنطقة من اهتمام إعلامي، لم يتضح منها ما يمكن أن يساهم في دعم أمن المنطقة أو ازدهارها. وربما الجانب الذي كان إثارة لغضب الكثيرين قدرته على استنزاف القدرات المالية للدول التي زارها. وذكر أن مجموع ما استطاع جمعه خلال أسبوع واحد بلغ 150 مليار دولار في شكل صفقات وعقود بين هذه الدول والولايات المتحدة الأمريكية. ويقدّر مجموع ما فرض على حكام المنطقة دفعه لأمريكا أكثر من ذلك. وهناك عدد من الجوانب المتصلة بالزيارة منها ما يلي:
أولا: في الجانب السياسي: اقتصرت الزيارة على كل من المملكة العربية السعودية ودولة قطر ودولة الإمارات. وقبل الزيارة كانت سياسته تتمحور دائما حول تأمين مصالح امريكا من خلال تمتين علاقات هذه الدول بالولايات المتحدة الأمريكية ليس عن طريق التفاوض والإقناع والمعاملة بالمثل بل بالتهديد والابتزاز. وقد أصبح واضحا أن ترامب يمارس ما يمكن تسميته “دبلوماسية البلطجة”، وذلك بفرض ما يريده وما يراه على مضيّفيه بدون نقاش او حوار. ولتحقيق ذلك أصبح الرئيس الأمريكي بتعبيراته ا لاستفزازية التي تهين الآخرين. فما أكثر ما يردد: “نحن ا لذين حميناهم” يقصد العائلات الحاكمة في الخليج، “لديهم أموال كثيرة وعليهم أن يدفعوا”، “لولا نحن لما بقوا في مناصبهم”. فهو يتكلم بما في قلبه ونفسه ولا يسعى للمجاملة أو احترام البروتوكالات الدبلوماسية. ولديه فريق يضع له أجندة عمله، ويساعده لتحويل صراخه وتصريحاته إلى سياسات ومشاريع عمل، بدون نقاش أو استفسار. ومن ينتقده بشكل مباشر يجد نفسه في فوّهة مدافع ترامب بدون رحمة او شفقة او دبلوماسية. ترامب استصغر حكام الخليج واستخفّ بهم، ولم يُراع البروتوكولات المعمول بها في العلاقات الدبلوماسية في التواصل معهم. وبذلك يعتبر الرئيس الأمريكي وبالا على الدبلوماسية والعلاقات بين الدول وأساليب مخاطبة الآخرين على تعدد ا نتماءاتهم. ولم يُخف رغبته في إجبار حكام ا لدول التي زارها على التطبيع مع الاحتلال، وان ربط ذلك بـ “الوقت المناسب” لعدم إحراجهم علنا.
وفي الجانب السياسي كذلك، كان ترامب واضحا في موقفه من إيران التي بدأت مفاوضات غير مباشرة مع أمريكا عُقدات عدة مرات في ا لأسابيع الأخيرة. والواضح أنه حائر تجاه ما يستطيع فعله مع إيران التي يستهدفها بالكلام الليّن تارة ثم يهددها بالاستهداف العسكري المباشر. والواضح كذلك أن سياسته تجاه إيران تتراوح بين التهديد بالتدمير أو التفاوض لإقامة العلاقات من جهة ثانية.
ثانيا: في الجانب الاقتصادي لم يخف ترامب هدفه من الزيارة، بل كان معروفا قبل أن تبدأ أنه قرّر استحصال ما يربو على تريليون (ألف مليار) دولار بعنوان صفقات متعددة المجالات. وقال أنه يختلف عن “المحافظين الجدد” الذين سبقوه الذين قال أنهم ضحّوا بالعدالة على خلاف سياسته المتعددة الفعاليات والجوانب، التي تقوم على فلسفته الهادفة للتعامل المالي بدلا من الحرب قائلا: “في السنوات الأخيرة كان هناك رؤساء أمريكيون عديدون كانوا مسكونين بمقولة أن وظيفتنا فحص نفوس الزعماء ا لأجانب واستخدام السياسة الامريكية التي تقدم العدالة في مقابل ذنوبهم”. وقال أن مهمته
في الرياض “الدفاع عن أمريكا وترويج المصالح الاساسية في الاستقرار والازدهار والسلام”. لقد كان ا لرجل صريحا في ما يريد، وأنه يضع مصلحة امريكا فوق كل شيء، حسب قوله. وكان واضحا في محاولاته إنجاح توجهاته لتحقيق ذلك. فهو يمارس التنمّر على الدول ذات الوفرة المالية للحصول على قدر أكبر من الاموال والاستثمارات، وفي الوقت نفسه يسعى لإضعاف مناوئي بلاده تارة بالاستهداف المباشر وأخرى بالتهديد المبطّن، وثالثة بإرسال الأساطيل لتكون قريبا من تلك البلدان. وفي غياب المنطق والبرهان وتراجع دور الدبلوماسية وغياب العمل الدولي في مجال الوساطات، تلوح نذر الحرب في الأفق لتهدّد أمن ا لعالم واستقراره. وما الحديث عن الحروب الكبرى خصوصا الحرب العالمية الثانية وما يُقال حول استيعاب دروسها ليس سوى دعاوى لا تجد مصاديق لها في الواقع.
ثالثا: الجانب الأخلاقي والقيمي: لم تكن لزيارة ترامب للدول الثلاث إلا محاولة لاستنزاف أموال المنطقة، ولم يكن لها بعد أخلاقي حقيقي. فلم يُسمع من الرئيس الزائر كلمة حول القضايا التي تعصف بالمنطقة خصوصا قضية فلسطين. فبينما كان يتجول بين العواصم الثلاث كانت الحِمم الإسرائيلية تهطل على رؤوس الأبرياء لتقتل الحرث والنسل وتسحق الطفولة وتحوّل ما بقي من غزة إلى ركام. ولم يمر يوم من تلك الزيارة بدون أن تحصدة آلة الموت الإسرائيلية عشرات الأرواح البريئة ضمن العدوان الذي ليس له مثيل في التاريخ المعاصر من حيث شموله واستمراره وحجمه وعبثيته وإجرامه. خلال تلك الأيام حان هناك عالمان: عالم البذخ والرفاهة غير المحدودة وموائد الطعام العملاقة والهدايا التي لا يوازيها نظير لها، وعالم يعج بالمأساة والكوارث البشرية والحرمان والمجاعة. ومع استمرار الحصار على غزّة، أصبحت هناك مجاعة حقيقية يتغافل الإعلام الدولي عنها. فأين الأخلاق في ذلك؟ إن مشهد الطفل الفلسطيني الذي تحوّل إلى هيكل عظمي مخيف يولّد في نفوس الآدميين حرقة وحسرة وألمًا. فكيف يطيق مسؤول أو سياسي أو حاكم أن يهنأ بتلك الموائد التي لا نظير لها، وهو يعلم أن جاره الفلسطيني يعاني من المجاعة؟ أين هي الإنسانية؟ أين هي الحصافة؟ أين هي الرأفة والرحمة. إن الطائرة التي قدّمت هدية للرئيس ترامب تكفي لإعادة بناء أكثر من 20 ألف وحدة سكنية لإيواء أولئك الذين هدم المحتل الإسرائيلي (المدعوم من ترامب والمؤسسة الأمريكية) منازلهم في أكبر قصف للمناطق السكنية منذ الحرب العالمية الثانية.
في ضوء هذه الحقائق، ما الذي جنته المنطقة من زيارة الرئيس الأمريكي الذي كان همّه توسع امبراطوريته التجارية واستنزال أموال المنطقة بدون الالتفات لما يعانيه أهلها من حرمان إنساني وسياسي وحقوقي. أين هو العالم المتحضّر الذي يُفترض أنه قطع أشواطا في استيعاب الإنسانية ورفض الظلم وحماية المظلوم؟ ألم يكن بوسع ترامب إصدار أوامر بمنع أي عدوان على الفلسطينيين على الأقل خلال زيارته المنطقة؟ ألم يكن باستطاعته حث حكام الدول التي زارها على توسيع الإنفاق لإقامة المشاريع الإعمارية والإنسانية لدعم المظلومين من ابناء المنطقة خصوصا الرازحين تحت الاحتلال؟ لماذا توضع القيم الإنسانية على الرفوف عندما يلتقي السياسيون والقادة؟ إذا لم تصل صرخات الجائعين والمحرمين والمشرّدين من أبناء غزة إلى آذان السياسيين والقادة الذين اجتمعوا في الرياض مع الرئيس الأمريكي، فإن ذلك خيانة للقيم والأخلاق والمواثيق الدولية التي احتفى الغربيون بها وهم يستحضرون ذكرى وقف الحرب العالمية الثانية ويحاولون منع تكرر الأسباب التي دفعت لذلك الصراع المدمّر.
يخطيء من يراهن على السياسات الأمريكية المعادية للإنسانية والمتناغمة مع ما يمارسه محتلو فلسطين. فلم يُعرف عن واشنطن يومًا دفاعها عن المظلومين في بقاع العالم، أو ضغطها على وكلائها الإقليميين الذين يمارسون الظلم والعدوان والاحتلال بدون حدود. وفي الذكرى السابعة والسبعين لـ “النكبة” يجدر بالأحرار إعادة فتح ملف الاحتلال وعدوانه وجرائمه لكي لا يتناسى العالم معاناة فلسطين وأهلها. لقد كانت أمريكا داعمة لسياسات الاحتلال طوال تلك الحقبة، وما تزال تتنكر لحق السكان ا لأصليين للعودة إلى ديارهم وإنهاء ملف الاحتلال الذي يرفضه كافة أحرار العالم. نجدد الدعم لأهل فلسطين وكل ضحايا الاحتلال والتهجير، ونهيب بشعوب العالم المطالبة بتحرير فلسطين ووقف العدوان المتواصل على أهلها سواء با لتهجير أم القتل، ولترتفع الأصوات الداعية للتصدي بحزم للمحتلّين والقاتلين، فتلك مسؤولية إنسانية يجب أن تتحمّلها الأجيال كافة، والله هو الناصر والمعين
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفكّ قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
16 مايو 2025