النضال من أجل الرغيف جهادٌ لتحقيق الكرامة وتحرير الوطن
عندما يصرّ مواطن مثل محمد يوسف السنكيس على تحدّي سياسة تكميم الأفواه التي فرضها الخليفيون على البلاد ويقف أمام العالم حاملا رغيف الخبز، فإنه يعبّر عن مشاعر عشرات الآلاف من المواطنين المحرومين من ا لحياة الهانئة، تارة بالتهديد وأخرى بتغيير الأحبة وراء القضبان، وثالثة بالحرمان من الحقوق المعيشية الأساسية خصوصا الدعم الاجتماعي والسكن المناسب. ومنذ الانسحاب البريطاني قبل أكثر من نصف قرن رُفع شعار “البحرنة” خصوصا بعد ان اكتظت البلاد بالعمال الأجانب بدءا من منتصف السبعينات. طرح هذا الشعار لدغدغة عواطف المواطنين الباحثين آنذاك عن حرّيّة حقيقية بعد الانتهاء الافتراضي لحقبة الاستعمار. لم يكن المواطنون آنذاك يتوقعون أن تتداعى أوضاعهم المعيشية الى المستوى الذي وصلته الآن. صحيح أن البعض أصبح لديه منزل يؤويه مع عائلته، ولكن بأي ثمن؟ وصحيح كذلك ان بالإمكان ا لعيش في هذا المنزل ولكن تحت أية ظروف بعد أن انتقم الطغاة الخليفيون من الشعب بالتنكيل والسجن والتشريد. إنها واحدة من غرائب الدهر أن يعيش المواطن الأصلي حياة مضطربة تفتقر للأمن الحياتي بالإضافة لغياب الأمن السياسي، بينما ينعم الأجانب بالأمن المعيشي والاستقرار الأمني، بعيدا عن عيون السلطة المركزة على السكان الأصليين.
نظر البحرانيون للرغيف الذي أصرّ محمد السكنيس على رفعه يوميا تعبيرا عن حاجة المواطن ا لعادي لما يسدّ رمقه في ظل ارتفاع الأسعار وتراجع الأجور وشحّة الوظائف. هذا المواطن يشعر أن النظام وضعه في دوّامة لا تنتهي من المشاكل، وأشغله بالحاجة لقوته لكي لا يلتفت لحقوقه الأخرى خصوصا السياسية. فالجوع أداة فاعلة لإشغال البشر عن كافة القضايا الحياتية الأخرى. فإذا جاع البطن غاض البصر وخفّ ا لسمع وغُلّ اللسان. ولعلّ هذا ما شعر به السكنيس الذي قضى عشرة أعوام من حياته وراء القضبان، وعانى من التعذيب ما لا يحتمله البشر، وتعرّض لانتكاسات نفسية هائلة بعيدا عن أهله وأصدقائه، ليس لأنه ا رتكب جرما يعاقب القانون عليه، بل لأنه امتلك شجاعة الموقف وقوة الردّ، وتمسّك بحقه في التعبير عن الرأي والانتماء للوطن والشعب والوقوف مع المظلوم ضد الظالم. وكغيره من البحرانيين الأشاوس كان من الذين هتفوا بالحرّيّة مطالبين بوطن آمن مستقر يحكمه القانون ويديره أبناؤه وليس الأجانب. وهذا ما لا يريده الطاغية الخليفي الذي اعتقد أنه سوف يركّع الأحرار بئالتنكيل والتعذيب والسجن. لم يكن الطاغية يتوقع أن يهرول البحرانيون الأصليون (شيعة وسنة) إلى ميدان اللؤلؤة ليحوّلوه إلى بؤرة ثورية تهدف للتغيير والقضاء على الاستبداد والفساد. لقد عاش السنكيس التجربة، ودفع ثمن ذلك بحرّيّته، وسكن الزنزانات التي احتضنت الآلاف وما يزال رموز الوطن والشعب يرزحون فيها.
لقد كان بإمكان هذا المواطن الشريف أن يترك الحبل على الغارب ويحتفل بخروجه من السجن بالانزواء اتقاء لشرور الخليفيين، لكنه يعلم أن سيفهم مسلط على كافة البحرانيين الأصليين (شيعة وسنة) ووصل الى نتيجة مهمة بأن الصمت ليس خيارا. أدرك بوعيه وتجربته الثورية أن الظلم ينتشي بصمت ضحاياه، وأن السجّان يستمر في ارتكاب جرائم التعذيب والتنكيل بالسجناء عندما يلوذ الضحايا بالصمت، ويتحدث الواحد منهم بلغة “الابتعاد عن الشر” وغض ا لطرف عن الجرائم التي يرتكبها الحاكم الذي اعتاد الإفلات من العقاب طوال حياته، فأصبح جلّادا محترفا لا يخشى طائلة القانون ويتمتع بحماية المستعمرين والطامعين في خيرات البلد. وكانت خطوة شجاعة أن يعبّر عن معاناة الفقراء والمظلومين في بلدهم الأم على أيدي ا لمحتلّين والغرباء الذين يشعرون دائما بغربتهم عن البلد وتراثه وشعبه. فالساكت عو الحق شيطان أخرس، وأن الحقّ يؤخذ ولا يُعطى، وأن الظالم لا يرعوي عن ظلم الآخرين والتنكيل بهم إلّا إذا شعر بانعكاسات ظلمه وتأثيرها على بقائه في الحكم. فما أكثر الذين يلوذون بالصمت حين تدلهم الخطوب، ولكن الأمة التي تنجب الشجعان قادرة دائما على التصدي للظلم والظالمين، لعلمها أن الظلم آفة لا يمكن التعايش معها. وقاده فكره وتجربته الشخصية إلى ضرورة التناغم مع مشاعر الأغلبية الساحقة من الشعب، تلك التي تضاعف جهودها للحصول على لقمة العيش، فكان الرغيف أداة فاعلة جذبت أنظار الناس، وأحرجت العصابة الحاكمة، وأظهرت حقيقة أوضاع قطاع كبير من المواطنين الذين يعيشون على حافة الفقر والجوع.
إن ثروة البلاد وفيرة ولله الحمد، تكفي لإعاشة الشعب وتسيير أمور البلاد بقدر من الارتياح. ولكن المشكلة تكمن في سوء توزيعها. فالقائمون على الحكم جشعون وأنانيون وعاجزون، فلا يتقنون إدارة هذه الثروة بقدر من العدالة والحِرفيّة. يضاف إلى ذلك أنهم يستخدمون هذه الثروة سلاحا في معركة البقاء على كرسي الحكم، فهي وسيلة لكسب دعم ا لبعض وحرمان البعض الآخر، وهي ضرورة لتكديس السلاح وأدوات القمع لكسر شوكة معارضي الحكم الخليفي القبلي، وهي مادّة لتوظيف المرتزقة لدعم الحكم الخليفي بأي ثمن. لذلك تتبدد هذه الثروة في مشاريع لا طائل فيها، وتنفق في غير مكانها. بل أنها تحوّلت لوسيلة قمع ضد ا لمناوئين ومعارضي نظام الاستبداد القبلي الذي تمارسه العصابة الحاكمة. وقد انتشرت ظاهرة الفقر على نطاق واسع، وأصبح قطاع واسع من البحرانيين محرومين من العيش الكريم بسبب اضطهاد السلطة وسعيها لإبقاء المواطنين على حافة الفقر وأسرى للقروض من البنوك ومن بطاقات الائتمان. ولطالما سعى المناضلون للتغيير لكي يتوفر للمواطنين نظام حكم قادر على المساواة والاعتدال في الإنفاق والاستفادة من الخبرات الوطنية لضمان حسن توزيع الثروة والالتزام بمعايير العدالة ومؤشراتها. ولكنهم كثيرا ما وجدوا أنفسهم في صراع مباشر مع النظام السياسي المدعوم من الخارج. لذلك اكتظت السجون وتوسعت دوائر الاضطهاد وتنوّعت طرق القمع ولم يمكن إقامة المنظومة السياسية القادرة على توفير مستوى مقبول من العدالة والمساواة. ويمكن ا لقول أن المواطن الأصلي ما يزال يبحث عن رزقه بما لديه من قوّة، بينما يسعى رموز الحكم لضمان نجاح مشروعهم ا لسياسي القائم على أساس اضطهاد الغالبية الساحقة من المواطنين، على أساس أن ذلك سيدفعهم للالتفاف حول رموز الحكم ودعم بقائهم في السلطة، ولكن ذلك لم يتحقق على نطاق واسع.
في مرحلة السباق من أجل البقاء يناضل المواطن البحراني من أجل ضمان لقمة عيشه في ظل حكم يتوفر على قدرات أمنية كافية، وهو كفاح تاريخي سجّلت تفصيلاته في الكتب والوثائق، واستمر أكثر من مائة عام. وهذا النضال يمثل جانبا من النضال الوطني من أجل الحرّيّة التي تمارسه الشعوب المظلومة والذي على طريقه يُستشهد الأبطال ويُعتقل الأوفياء. وبرغم وعورة هذا الطريق إلا أنه درب الشرف والكرامة، يؤكد حرّيّة من يسيره وإنسانيته. لقد أيقن شعبنا أن هويّته لا تتحقق إلا عبر طريق النضال والصمود، لذلك لن يرضخ يوما لطاغية أو متجبّر، ولن يسلّم قياده إلا لله المقتدر الجبّار الذي ينصر ا لمظلومين ويقهر الظالمين. سيواصل طريقه الوعر الطويل حتى يفتح الله له فتحا مبينا، ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله. فلن تضيع دماء الشهداء ولن تذهب جهود المضحّين هدرا. فالله لا يضيع عمل عامل، ولا يظلم ربُّك أحدا، وهو حسبنا ونعم الوكيل
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لهم قدم صدق عندك، وفكّ قيد أسرانا يا رب العالمين
حركة أحرار البحرين الإسلامية
9 مايو 2025